القضاء العراقي في عصر الذكاء الاصطناعي
في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة التي يشهدها العالم، لم يعد قطاع العدالة والقانون بمعزلٍ عن هذه الثورة الرقمية، إذ أصبحت التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أدوات أساسية في تطوير الأنظمة القضائية والإدارية على حدٍّ سواء.
ويُعدّ العراق من الدول التي بدأت تتجه تدريجيًا نحو الرقمنة في المؤسسات الحكومية، بما في ذلك وزارة العدل والمحاكم، في محاولة لتقليل الروتين الورقي وتسريع الإجراءات.
غير أن هذا التحول لا يخلو من تحديات قانونية وتقنية وأخلاقية، وهو ما يجعل دراسة تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على عمل المحاكم العراقية مسألة بالغة الأهمية لضمان استثمارها بالشكل الصحيح والمستدام.
وسيتناول هذا التقرير ثلاثة مباحث رئيسة:
- المبحث الأول: مفهوم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في المجال القانوني.
- المبحث الثاني: أثر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على عمل المحاكم في العراق.
- المبحث الثالث: محاكم دبي أنموذجًا ناجحًا لتطبيق التكنولوجيا في العمل القضائي، والدروس المستفادة للعراق.
المبحث الأول: مفهوم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في المجال القانوني
تُعرّف التكنولوجيا القانونية (Legal Technology) بأنها استخدام الأدوات الرقمية والبرمجيات والأنظمة المعلوماتية لدعم مهنة القانون وإدارة القضايا والإجراءات القضائية. وتشمل هذه الأدوات:
- أنظمة إدارة القضايا الإلكترونية (E-Case Management Systems).
- التوقيع الإلكتروني والتوثيق الرقمي.
- قواعد البيانات القانونية والبحث الذكي في النصوص التشريعية.
- الذكاء الاصطناعي في تحليل السوابق القضائية أو صياغة المستندات القانونية.
أما الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) فهو قدرة الأنظمة الحاسوبية على محاكاة التفكير البشري عبر تحليل البيانات والتعلم منها واتخاذ قرارات شبه مستقلة. في المجال القانوني، يُستخدم في:
- فرز القضايا وتصنيفها.
- التنبؤ بنتائج النزاعات بناءً على السوابق القضائية.
- تحليل العقود والكشف عن الأخطاء أو المخاطر القانونية.
- إنشاء “مساعدين قانونيين آليين” يقدّمون إجابات مبدئية للمواطنين.
ويمثل الذكاء الاصطناعي فرصة كبيرة لتقليل الجهد والوقت في العمل القضائي، لكنه يتطلب حوكمة دقيقة وضوابط قانونية لمنع الانحراف أو التحيّز في نتائجه.
المبحث الثاني: أثر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على عمل المحاكم في العراق
أولاً – الوضع الحالي
يواجه النظام القضائي العراقي تحديات عديدة مثل بطء الإجراءات، تراكم القضايا، ونقص الموارد التقنية. وقد بدأت وزارة العدل العراقية خلال السنوات الأخيرة بخطوات مبدئية نحو التحول الرقمي، منها:
- مشروع الأرشفة الإلكترونية لملفات المحاكم.
- إدخال نظام إدارة القضايا إلكترونيًا في بعض المحاكم المركزية.
- اعتماد البريد الإلكتروني الرسمي للتبليغات الإدارية بين الدوائر.
ورغم هذه الجهود، لا يزال التطبيق محدودًا ويحتاج إلى خطة وطنية شاملة للتحول الرقمي في القضاء.
ثانيًا – الإيجابيات المحتملة
- تسريع الفصل في القضايا من خلال نظام إلكتروني يتيح للقاضي والمحامي متابعة سير الدعوى لحظة بلحظة.
- تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد عبر وجود سجل رقمي لكل إجراء.
- تسهيل وصول المواطنين للعدالة عبر بوابات إلكترونية لتقديم الطلبات أو الاطلاع على المرافعات.
- تحسين حفظ الأدلة إلكترونيًا ومنع ضياع الوثائق أو التلاعب بها.
ثالثًا – التحديات
- ضعف البنية التحتية التقنية في المحاكم وغياب الربط الشبكي بين المحافظات.
- نقص الكوادر المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات القانونية.
- غياب التشريعات المنظمة مثل قانون التوقيع الإلكتروني وحماية البيانات الشخصية.
- مخاطر الأمن السيبراني على البيانات القضائية الحساسة.
رابعًا – الحلول المقترحة
- إصدار قانون لحماية البيانات وإنشاء وحدة وطنية للعدالة الرقمية.
- تدريب القضاة وموظفي المحاكم على استخدام الأنظمة الذكية.
- التعاون مع الجامعات والشركات لتطوير نظام إدارة قضايا وطني موحد.
- تبنّي استراتيجية ثلاثية المراحل تبدأ بالتجريب في محكمة نموذجية ثم التوسّع التدريجي.
المبحث الثالث: محاكم دبي أنموذجًا
تُعدّ محاكم دبي من أبرز التجارب العربية في توظيف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في القضاء. فقد بدأت منذ عام 2018 بإطلاق مشروع “المحكمة الذكية”، الذي مكّن المواطنين والمقيمين من إنجاز معظم الخدمات القضائية إلكترونيًا دون الحاجة إلى الحضور الشخصي.
أهم الممارسات في محاكم دبي:
- نظام القاضي الذكي (Smart Judge):
منصة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقديم استشارات قانونية أولية للمستخدمين.
- المحاكم الرقمية (E-Court):
تتيح رفع الدعاوى، تبادل المذكرات، وسداد الرسوم إلكترونيًا عبر تطبيق موحد.
- الأرشفة الإلكترونية الكاملة للملفات القضائية مع التوقيع الإلكتروني المعتمد.
- التحول نحو القضاء عن بُعد (Remote Trials) باستخدام تقنيات الفيديو للمرافعات.
الدروس المستفادة للعراق:
- ضرورة وجود إرادة حكومية وقضائية موحدة لتبنّي التحول الرقمي.
- وضع إطار تشريعي ينظّم المعاملات الإلكترونية في القضاء.
- إنشاء بنية تحتية مؤمنة تشمل مراكز بيانات وطنية.
- تعزيز ثقافة التكنولوجيا القانونية لدى القضاة والمحامين.
إن تطبيق التجربة الإماراتية في العراق يتطلب تكييفها مع الظروف المحلية من حيث الإمكانات الفنية والبيئة القانونية، لكنه نموذج يمكن الاسترشاد به في مسيرة الرقمنة القضائية العراقية.
الخاتمة والاستنتاجات
لقد أصبح من الواضح أن مستقبل العدالة في العراق مرتبط بمدى قدرة النظام القضائي على تبنّي التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بشكل واعٍ ومسؤول.
فالتحول الرقمي ليس خيارًا ترفيًّا بل ضرورة لتحسين كفاءة المحاكم وتقليل الفساد وتسهيل الوصول إلى العدالة.
ومع ذلك، يجب أن يتم الاستثمار في هذه التقنيات ضمن إطار قانوني واضح يضمن حماية الحقوق الفردية وسرية البيانات، مع تدريب الكوادر وتأهيلها.
تُظهر تجربة محاكم دبي أن النجاح في التحول الرقمي القضائي يعتمد على التخطيط المسبق، والحوكمة الرشيدة، وتكامل الجانب القانوني مع التقني.
لذلك، فإن استثمار التكنولوجيا في القضاء العراقي يتطلب تعاونًا بين مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل والجامعات العراقية لإطلاق مشروع وطني للعدالة الرقمية يضع العراق على طريق التحديث القضائي الحقيقي.
قائمة المصادر
- تطوير القواعد القانونية العراقية في ضوء الذكاء الاصطناعي – جامعة كربلاء ، 2025.
http://rem.as/ThR - مدى تحقيق التقاضي الرقمي للحماية القانونية لحقوق المتقاضين – جامعة أوروك ، 2024.
http://rem.as/Tjw - مشروع الرقمنة مع القضاء العراقي – الأمم المتحدة ، 2024.
http://rem.as/bkd - القضاء العراقي: الذكاء الاصطناعي المستخدم في الاحتيال والتشهير يندرج ضمن الجرائم التقليدية – روداو ، 2025.
http://rem.as/wlH - دور الوسائل الرقمية في الكشف والإثبات الجنائي – أثير ذياب عباس الزهيري ، 2024.
http://rem.as/Nzw - التقاضي الإلكتروني الرقمي (دراسة لتطوير الإجراءات القضائية) – الجامعة المستنصرية ، 2024.
http://rem.as/sxB - الذكاء الاصطناعي – وزارة العدل الإماراتية ، 2025.
http://rem.as/Lck - Technology, AI, and the Future of Litigation in Dubai’s Onshore Courts – BSA LAW 2025.
http://rem.as/EvJ